بقلم الدكتور علي الصلابي
لقد كان للعلماء والأدباء مكانة خاصة لدى محمد الفاتح، فقرب إليه العلماء ورفع قدرهم وشجعهم على العمل والإنتاج وبذل لهم الأموال ووسع لهم في العطايا والمنح والهدايا ليتفرغوا للعلم والتعليم ويكرمهم غاية الإكرام ولو كانوا من خصومه؛ فبعد أن ضم إمارة القرمان إلى الدولة أمر بنقل العمال والصناع إلى القسطنطينية غير أن وزيره روم محمد باشا ظلم الناس ومن بينهم بعض العلماء وأهل الفضل ومن بينهم العالم احمد جلبي بن السلطان أمير علي فلما علم السلطان محمد الفاتح بأمره اعتذر إليه واعاده إلى وطنه مع رفقائه معززاً مكرماً.
وبعد أن هزم اوزون حسن زعيم التركمان وكان هذا الزعيم لا يلتزم بعهد ويناصر أعداء العثمانيين من أي ملة كانت، فبعد أن هزمه محمد الفاتح وقع في يده عدد كبير من الأسرى، فأمر السلطان الفاتح بقتلهم (إلا من كان من العلماء وأصحاب المعارف مثل القاضي محمد الشريحي وكان من فضلاء الزمان، فأكرمه السلطان غاية الإكرام.
وكان السلطان الفاتح يحترم العلماء وأهل الورع والتقى وقد تستبد به في بعض الأحيان نزوة جامعة أو غضبة طارئة ولكنه ما يلبث إلا أن يعود إلى وقاره واحترامه لهم.
وتحدثنا كتب التاريخ أن السلطان محمد بعث مع احد خدامه بمرسوم إلى الشيخ احمد الكوراني - وكان حين ذاك يتولى قضاء العسكر- فوجد فيه أمراً يخالف الشرع فمزقه وضرب الخادم. وشق ذلك على السلطان محمد وغضب من فعل الشيخ وعزله من منصبه، ووقع بينهما نفور وجفوة ورحل الكوراني إلى مصر حيث استقبله سلطانها قيتباي وأكرمه غاية الإكرام وأقام عنده برهة من الزمن. وما لبث الفاتح أن ندم على ما كان منه فكتب إلى السلطان قيتباي يطلب منه أن يرسل إليه الشيخ الكوراني (فحكى السلطان قيتباي كتاب السلطان محمد خان للشيخ الكوراني ثم قال له لا تذهب إليه فاني أكرمك فوق ما يكرمك هو. قال: نعم هو كذلك إلا أن بيني وبينه محبة عظيمة كما بين الوالد والولد. وهذا الذي جرى بيننا شيء آخر وهو يعرف ذلك مني ويعرف أني أميل إليه بالطبع فإذا لم أذهب إليه يفهم أن المنع من جانبك فتقع بينكما عداوة. فاستحسن السلطان قيتباي هذا الكلام وأعطاه مالاً جزيلاً وهيأ له ما يحتاج إليه من حوائج السفر وبعث معه هدايا عظيمة إلى السلطان محمد خان. واسند إليه الفاتح القضاء ثم الإفتاء واجزل له من العطاء وأكرمه إكراما لا مزيد عليه [1].
قال عنه الشوكاني: (.. وانتقل من قضاء العسكر إلى منصب الفتوى وتردد إليه الأكابر وشرح (جمع الجوامع) وكثر تعقبه للمحلى (جلال الدين المحلي المفسر) وعمل تفسيراً، وشرحاً للبخاري وقصيدة في علم العروض نحو ستمائة بيت. وأنشأ بأسطنبول جامعاً ومدرسة سماها دار الحديث وانشالت عليه الدنيا وعمر الدور وانتشر علمه فأخذ عليه الأكابر وحج في سنة 761هـ إحدى وستين وسبعمائة ولم يزل على جلالته حتى (مات) في أواخر سنة 793هـ ثلاث وتسعين وسبعمائة وصلى عليه السلطان فمن دونه ومن مطالع قصائده في مدح سلطانه:
هو الشمس إلا أنه الليث باسلا
هو البحر إلا أنه مالك البر
وقد ترجمه صاحب (الشقائق النعمانية) ترجمة حافلة...وانه كان يخاطب السلطان باسمه ولا ينحني له، ولا يقبل يده بل يصافحه مصافحة، وانه كان لا يأتي إلى السلطان إلا إذا أرسل إليه وكان يقول له، مطعمك حرام وملبسك حرام فعليك بالاحتياط. وذكر له مناقب جمة تدل على أنه من العلماء العاملين...)