لكي نتمكن من معالجة مشكلة التخلف العربية، التي تواجهنا بشكل صحيح، ينبغي أن نبدأ بتحديد جوهر وأسباب المشكلة.
وإذا عدنا إلى نظريات التنمية، فسوف تقودنا إلى مجموعة من الأسباب المعروفة لدينا، التي تعمل على تجسيد التخلف وإعاقة وإحباط جهود التنمية. وقد نختلف على أهمية وطبيعة ودرجة تأثير هذه الأسباب، لكننا سنجد أنفسنا في نهاية المطاف أمام حقيقة واضحة مفادها ان العالم العربي ـ وبصرف النظر عن أسباب تخلفه التي يختلف حولها المفكرون والمثقفون ـ يحتاج اليوم إلى قوة دافعة محركة تساعد على الخروج من مأزق التخلف، وعلى المضي قدما في انطلاقة التنمية. فإذا لم تكن هناك قوة تنموية دافعة تؤثر على الناس الذين تعودوا على حياة التخلف، فلننس مسألة التنمية حتى ولو عرفنا أسباب التخلف. ولهذا فإن نقطة البدء تكون في تحديد هذه القوة التنموية الدافعة.
هذه القوة تتمثل في الفكر الذي يمكن تسميته بالفكر التنموي العربي. وينبغي لهذا الفكر لكي يكون ناجحاً في أهدافه التنموية ان يتطور ضمن الإطار الإسلامي ووفق السياق الإسلامي. فالإسلام دينا وثقافة يهيمن على عقول وقلوب المسلمين ويؤثر في سلوكهم وحياتهم. وإذا لم تكن القوة الدافعة للتنمية التي يمكن للفكر العربي التنموي ان يعتمد عليها، إذا لم تكن قادرة على التفاعل مع عامة الناس وعلى التغلغل في أعماق أنفسهم، فلن نتمكن من اخراجهم من التخلف ودفعهم نحو التنمية. فالفكر التنموي الذي نحتاج إليه في عالمنا العربي لن ينجح في تحقيق أهدافه المرجوة إلا إذا جاء منسجماً مع روح الإسلام وثوابته. فلا العلمانية ولا القومية ولا الاشتراكية قادرة على تشكيل أساس الخطاب التنموي العربي، لكن الإسلام بالمقابل، قادر على تزويدنا بالسلاح أو الأساس الذي نقاتل به التخلف، لأن الناس يفهمونه ويقبلونه ويحبونه ويتفاعلون معه. هذه حقيقة ينبغي ان نسلم بها، وان عدم قبولها يجعلنا ندور في حلقة مفرغة من الجدل غير المفيد. ولن يتمكن أي مفكر عربي من المساهمة في إثراء عملية التنمية العربية إذا لم يقبل بهذه الحقيقة، فكيف يمكن للفكر العربي التنموي ان يستفيد من حقيقة تغلغل الإسلام في نفوس وعقول وقلوب المسلمين لتدعيم انطلاقة التنمية العربية؟.
إذا كان بإمكان الفكر الإسلامي المتطرف أن يستغل قوة تأثير الإسلام على بعض شباب المسلمين بالشكل الذي يجعلهم يقتلون أنفسهم، أفلا يمكن للفكر التنموي العربي الإسلامي بالمقابل، ان يعتمد على هذه القوة الإسلامية الهائلة لدفع انطلاقة التنمية في العالمين العربي والإسلامي؟ ألا يمكن قلب الوضع الحالي، بحيث يتم استثمار القوة الإسلامية الدافعة لتحقيق التنمية والتطور عوضاً عن استغلالها الحالي من قبل المتطرفين لتدعيم التطرف والتخلف في العالمين العربي والإسلامي؟.
نعم يمكن لهذا الإنجاز الكبير أن يتحقق إذا تمكنا من معالجة إشكالية الفكر الإسلامي في الوقت الحاضر، فإذا تأملنا في هذا الفكر نجد أنه يعاني من مشكلتين رئيسيتين هما:
1 ـ تأثره بالخطاب السياسي المتطرف. 2 ـ خضوعه لمجموعة من القيود التي جعلته يتصف بالجمود ومحدودية قدرته على الحركة والتطور.
ان معالجة هاتين المشكلتين تتطلب حقيقة تجديداً وتطويراً أساسياً في بعض مجالات ومضامين الفقه الإسلامي. فلا تنمية في العالم العربي الا من خلال الاعتماد على الإسلام. والفكر الإسلامي الحالي يحتاج إلى تطوير وتجديد، وهناك من يعارض بشدة هذا التطوير والتجديد، وان هذه المعارضة تجسد في الحقيقة مأزق التخلف في العالمين العربي والإسلامي. ولقد تعلمنا منذ الصغر ان الإسلام قادر على التكيف مع جميع ظروف الزمان والمكان، وقادر على التفاعل مع مستجدات ومستلزمات وضرورات الحياة الإنسانية. ويشكل هذا المبدأ منطلقاً جيداً مهماً في التطوير، لأن القدرة على التكيف هي أحد مستلزمات التنمية الأساسية، لكن تكيف الفكر الإسلامي مع الظروف المستجدة لن يحدث في ظل حالة الجمود الفقهي المعاصر وهناك حاجة وضرورة ملحة للتجديد والتطوير ولإزالة سوء الفهم في بعض مجالات الفقه السياسي وفقه الجهاد والعلاقة مع غير المسلمين، والفقه الاقتصادي وفقه العلم والتعليم، وفقه المرأة، والفقه الاجتماعي. وان كل من يرفض فكرة الدعوة لهذا التجديد ويعارضها، فإنه يعمل من حيث يدري أو لا يدري، على تجسيد التخلف ووضع القيود أمام التنمية في المجتمعات العربية والإسلامية.
وإذا كان الفقه من حيث المبدأ هو من اختصاص علماء المسلمين، فإن صياغة الخطاب التنموي ينبغي أن تكون مفتوحة امام جميع المهتمين بالمشاركة من المفكرين الإسلاميين والمتخصصين بالدراسات الإسلامية. فضالتنا في هذه المسألة هي الفكرة المفيدة الجيدة. وأي فكرة تنموية مناسبة لا تتعارض مع مبدأ إسلامي ثابت ينبغي الأخذ بها حتى ولو كان مصدرها مفكر أو مستشرق غير مسلم.
ان فكر التطرف الإسلامي الذي يدعو الى الصدام مع الغرب يخلق للمسلمين مشاكل عديدة تحد من قدرتهم على التطور. فجميع مصادر القوة الاقتصادية والعسكرية والعلمية والتقنية موجودة الآن لدى الغرب. والمسلمون غير قادرين على مواجهته أولا، وهم بحاجة إليه لأغراض التنمية ثانيا. فكيف نترك الفكر المتطرف المنسوب إلى الإسلام يخرب ويهدم بيتنا الإسلامي من خلال دعوته إلى صدام مع الغرب قد تكون نتيجته كارثة على المسلمين في حال حدوثه.
وفي ما يتعلق بالتعليم، فإذا اردنا بعد عشرين عاما على الأقل، ان يكون لدينا جيل قادر على التفاعل مع متطلبات التنمية فينبغي أن نبدأ، منذ الآن، بإصلاح جدي فعلي لمناهج تعليمنا. فكما اننا بحاجة إلى فكر عربي تنموي عام فإننا أكثر حاجة إلى وضع برامج تعليمية تنموية قادرة على أن تخلق لدى أجيالنا العقلية التحليلية العلمية الجيدة والمعرفة التقنية المناسبة. وان اصلاح مناهج التعليم العربية وتطويرها يحتاج إلى اصلاح مرافق له في قدرات ومهارات المدرسين الذين يقومون بتعليم طلبتنا في المدارس. المرأة نصف المجتمع، وهي ايضا تلد نصفه الآخر، ولا يمكن من حيث المبدأ تحقيق التنمية في أي مجتمع إذا كانت نصف طاقته البشرية معطلة أو غير مستثمرة بالشكل الافضل. وهناك في عالمنا الإسلامي الكثير من القيود الاجتماعية والسياسية المفروضة على المرأة باسم الدين بشكل غير صحيح. وكلما تذكرت مشهد رجل طالبان في افغانستان وهو يضرب المرأة بالعصا، كما رأيناه في التلفاز، وتذكرت قصة قرأت عنها لامرأة عربية ريفية ماتت وهي تعاني من الألم لأنها لم تجد من يأخذها إلى المستشفى، ولم تعرف كيف تذهب إليه بمفردها، وكلما تذكرت وضع عشرات الآلاف من النساء المسلمات المتعلمات غير القادرات على العمل من سجينات البيوت، شعرت بالألم والظلم والإحباط الذي تعانيه ملايين النساء في عالمنا العربي والإسلامي. ولهذا فإن هناك ضرورة إنسانية وضرورة اقتصادية وضرورة اخلاقية وضرورة تنموية تستلزم منا العمل الجدي لمعالجة مشاكل المرأة في العالم الإسلامي. فالإسلام الذي كرم المرأة وساواها بالرجل من حيث المبدأ في أهم مجالات ومضامين الحياة، لا يمكن أن يكون عاجزاً اليوم عن تقديم الحلول المناسبة والكفيلة بإصلاح وضع وظروف المرأة المسلمة