في حين يسعى العالم المتحضر في تطوير نظامه الديمقراطي ليستظل تحته كل المحرومين من بلدان العالم النامية ، وعلى رأسهم ومقدمتهم دولنا العربية والإسلامية بأطيافها وألوانها ومعتقداتها المختلفة ، يبقى عالمنا الشرق أوسطي المشتعل بالحروب( أغلبها حمقاء ) يبحث عن الأدوات والأساليب الملتوية لخنق الديمقراطية ومؤسساتها المدنية ووأدها واستبدالها بنظام مشوه لا يؤمن حتى بأبسط القيم والحقوق التي وهبها الله تعالى ، وهاهم الكتّاب الأسلامويون في الصحف يشنون حملة على البهائيين والصوفية واصفين إياهم بأقذع الأوصاف و ( الأخوان المسلمين في مصر الذين ) وهم ممن يدّعون بالتسامح الديني واصفين أنفسهم بالمستنيرين تارة والمعتدلين تارة أخرى ، يحاولون استصدار مشروع قانون لتجريم اعتناق البهائية في مصر ، باعتبار هذا الدين صنيعة موسادية و عميلة لإسرائيل وبأنهم خونة وبالتالي يصبح مصيرهم واضحا هو القتل بسبب الردة أو الخيانة العظمى .!!
إن المحنة التي تواجه الديمقراطية في الوطن العربي والإسلامي تتجلى بوضوح في عدم فهمهم للديمقراطية كمفهوم وثقافة ( حكم الأغلبية مع حفظ حقوق الأقلية ، والحريات ، واحترام القانون و فصل السلطات ونقد الذات والمحاسبة ...الخ ) التي تجعل هذا النظام يتجدد بأدواته الرقابية التي جعلت أوروبا والغرب مركز إشعاع علمي وأدبي وفلسفي وأخلاقي متحضر يسعى لكسب ودها وحمل جنسيتها المحرومون في العالمين العربي والإسلامي .
ويذهب الكثير في بلداننا أن الديمقراطية هي صندوق انتخابي يمارس الناس فيه حق اختيار نوابهم فقط أو بعض الشعارات ، يطلقه المتكسبون من ثمار هذا النظام العظيم ، ويتناسون بأن الديمقراطية له استحقاقاته . وهو نظام متكامل يحفظ للضعيف حقه قبل الكبير ، ويحاسب فيه الكبير والمسؤول ورئيس الحكومة .
بينما ما تزال أغلب الحركات والأحزاب الدينية في وطننا العربي بالأخص يتمتعون بأدوات الديمقراطية من خلال صناديق الانتخابات _ باعتبار أن للعرب وللمسلمين خصوصياتهم في ممارسة العمل النيابي _ في حين أن ممارستهم الحياتية والحزبية تكون تبعا لأيديولوجيات دينية ولأفكار راديكالية متطرفة ، بل وتحاول وبشكل علني مخالفة الدولة والسلطة التي ينتمي إليها ، ولعل العملية الجهنمية التي أقدم عليها حسن نصر الله أمين عام حزب الله في لبنان أبلغ وأدق على مدى رفضهم وعدم اعترافهم وإيمانهم بالديمقراطية ولم يرجع إلى البرلمان لأخذ المشورة في قضية تشمل حياة ومصير البلد ، بل يخوض غمار حرب يقتل فيها أكثر من ألف من الأبرياء ، وفي نهاية المطاف لبنان تدمر وأهله يشردون وتتحمل الدولة طيش وديكتاتورية الحزب ويحتفل الحزب بالانتصارات الباهرة بجمائم الأبرياء ، ولن يتجرأ أحد من المسؤولين في لبنان ولا الحكومة من محاسبة السيد الكبير الذي اختطف قرار بلد كامل بإرادة ولي الفقيه ، بل يصرح بأنه سيحاسب الذين خذلوا المقاومة . وفي المقابل تقوم الحكومة الإسرائيلية بمحاسبة رئيس وزرائها ( أولمرت ) ووزير دفاعها (عاميير ) !!!!!!
إن العقلية العربية والإسلامية هي عقلية استعلائية ، لا تحاول كشف العيوب المزمنة لمشكلاتها المتكررة وهزائمها المتوالية . بل تبحث عن المؤامرات التي حيكت ضدها ، والخيانات التي تعرضت لها من أصدقائها ، هذه هي الحالة العربية التي لا تضع يديها على الجرح وهو التفكير الأحادي المتسلط بأشكاله المتعددة وصورها المختلفة ( دينية أم قومية وحتى العلمانية منها ) ، وعدم فهم طبيعة الحياة التي تتطور بنقد الذات ومحاسبة المسؤولين أو البحث عن السبب والمسببات . الديمقراطية ليست سوى أداة فعالة قابلة للتعديل والتغيير وفق معطيات الواقع ، وليس عليها أن تكون أداة سحرية لحل جميع المشكلات في أوطاننا ، ويقول الكاتب العربي جورج طرابيشي في إحدى إشكالياته في مقال ( إشكاليات الديمقراطية العربية ) :
" إشكالية المفتاح والتاج . فالموقف الأيديولوجي يرى في الديمقراطية مفتاحا لحلمشكلات المجتمعات العربية، وهذا المفتاح هو بالضرورة من طبيعة سحرية، مثله في ذلكمثل سائر "المفاتيح العجائبية" التي أناطت بها الايدولوجيا العربية معجزة النقلة الفجائية ، بلا مجهود ولا كلفة ولا زمن، من واقع التأخر إلى مثال التقدم "
الديمقراطية هي ممارسة طبيعية بشرية قابلة للخطأ والصواب وصلت إلينا بعد حروب طويلة راح ضحيتها الآلاف من الأبرياء ، وليس بالضرورة أن تكون عصا سحرية لمشكلاتنا التي لا تنتهي ، ولكنها حتما ستكون أخف وطأً من التفكير الأحادي المستبد الذي لا يجد الحاجة لرأي الآخرين والمعارضين إلا ضربا من التخلف أو محاولة لمناهضة النظام أو الحزب.
وتكمن للديمقراطية العربية مطبات وعقبات كثيرة ومنها من لا يؤمن بالديمقراطية إلا للوصول للحكم كأداة سهلة من خلال الغالبية لا كإيمان يقيني بالديمقراطية ، ومن ثم الإجهاز عليها ( جبهة الإنقاذ الجزائرية ) التي اعتبرت الديمقراطية ( غربية دخيلة بل كافرة أحيانا ) ولا أعلم لماذا لم يتضح لهم كفرها وغربيتها إلا بعد الوصول للحكم من خلال أداة ديمقراطية وما تحمل من سعة وسماحة للشرفاء والصادقين ، وبالتالي تظهر الإشكالية الأخرى وهي ( احترام العقد الديمقراطي ) كما يراها الكاتب جورج طرابيشي :
" والواقع إن مطالبة الأنظمة القمعية باحترام شروط العقدالديمقراطي، كمطالبة الحركات الأصولية به ، هي إشكالية زائفة، فالطرفان كلاهمايقفان خارج نطاق العقد الديمقراطي وكل ما هنالك أن الممارسة اللاديمقراطيةالراهنة من قبل الأنظمة هي عند الأصوليين ممارسة مؤجلة، وبين ناري هاتين الممارستينفإن ضربا من الاستقالة يفرض نفسه "
ولعل القضية المحورية الأساسية للديمقراطية والمظالم الذي وقع على النظام الرائع ، هي الانتقائية البغيضة لها ، بالإيمان ببعض أدواتها والكفر بالكثير الباقي منها ، ومنها قبول الديمقراطية كنظام حكم فقط وليس كثقافة ديمقراطية تمارس في البيت ، كقبول الأب الشرقي برأي مخالف من ابنه وابنته وزوجته ، وقبول المجتمع بالرأي الآخر وجعلها ثقافة حياتية قبل أن تكون ممارسة سياسية فقط . ويقول طرابيشي في هذه الإشكالية :
" ولئن تكن الحريةالديمقراطية تنتهي لا محالة إلى صندوق الاقتراع ، فإن الصندوق الأول الذي تنطلق منه هي جمجمة الرأس ، وان لم يتضامن صندوق الرأس مع صندوق الاقتراع ، فإن هذا الأخير لنيكون إلا معبرا إلى طغيان غالبية العدد "
و بهذه الإشكاليات ، هل الشرق الأوسط شرق جهنمي أم هي مقبرة كتب عليها أن تظل مسلوبة ومختطفة بأيدي أعداء الحياة ؟؟ !! ، شرق أوسط تفوح منه رائحة البارود وقنابل بشرية موقوتة تستعد دائما للقضاء على الأمل الجميل والغد المشرق لأبنائنا ، لغد يبحث فيه الإنسان لأولاده عن مكان خالِ من ثقافة الحقد و الكراهية وتتعايش فيه الطوائف باختلافهم الرائع . هكذا كانت لبنان الجميلة قبل أن يختطفها طيور الظلام والموت .